ستون عاماً على اختفاء المهدي بنبركة.. لغز سياسي لا يزال يبحث عن الحقيقة

، تمر ستون سنة كاملة على اختطاف الزعيم المغربي المهدي بنبركة، أحد أبرز رموز المعارضة الوطنية وأحد الوجوه اللامعة في حركة التحرر العالمية منتصف القرن الماضي. ومع مرور العقود، لا تزال قضية اختفائه واحدة من أكثر الملفات غموضاً في التاريخ السياسي المغربي الحديث، وجرحاً مفتوحاً في الذاكرة الوطنية ينتظر الكشف الكامل عن الحقيقة.
لم يكن المهدي بنبركة مجرد معارض سياسي، بل شخصية فكرية ذات امتداد عالمي. فقد قاد انشقاق “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” عن حزب الاستقلال، وكان من أبرز منظّري “العالم الثالث” الساعي إلى توحيد القوى التقدمية ضد الهيمنة الغربية. جمعته علاقات متينة بقادة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان يُحضّر لقمة التضامن بين شعوب الجنوب التي كانت مقررة في هافانا عام 1966.
كما كان بنبركة أستاذاً للرياضيات للملك الراحل الحسن الثاني عندما كان ولياً للعهد، ومستشاراً للرئيس الجزائري أحمد بن بلة عقب استقلال الجزائر، ما يعكس مكانته الفكرية والسياسية المرموقة.
رغم مرور ستة عقود على عملية الاختطاف التي وقعت في باريس سنة 1965، لم يُكشف بعد عن مصير بنبركة ولا عن تفاصيل ما جرى.
هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أُنشئت بأمر من الملك محمد السادس، أكدت في تقريرها الختامي أن القضية “تحتاج إلى استكمال البحث والتحقيق”، مشيرةً إلى أن مسؤولية الدولة المغربية قائمة في المساهمة في كشف الحقيقة نظراً لاشتباه تورط أحد أجهزتها الأمنية، رغم أن الجريمة وقعت على التراب الفرنسي.
وجاء في التقرير أن “الدولة الفرنسية تتحمل بدورها جزءاً من المسؤولية”، خاصة بعد ثبوت مشاركة عناصر من شرطتها في عملية الاختطاف.
قبل عشر سنوات، وجّه الملك محمد السادس رسالة مؤثرة إلى المشاركين في لقاء بالمكتبة الوطنية بمناسبة الذكرى الخمسين لاختطاف بنبركة، قرأها الوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي.
وأكد الملك في رسالته أن “المرحلة التي أعقبت الاستقلال كانت مشحونة بالتقلبات والصراعات، لكن القاسم المشترك بين جميع المغاربة آنذاك كان خدمة الوطن”. وأضاف: “ليس هناك تاريخ جيد أو سيئ، وإنما هناك التاريخ كما هو: ذاكرة شعب بأكمله”.
وشدد العاهل المغربي على ضرورة استخلاص الدروس والعبر من هذه القضية، وجعلها “وسيلة للبناء لا للهدم”.
بعد مرور ستين عاماً، لا يزال الملف القضائي مفتوحاً في فرنسا. وقد كُلّفت قاضية جديدة بالتحقيق منذ سنة، حيث أبدت – حسب نجل الراحل، البشير بنبركة – “التزاماً ملموساً” لإحياء الملف بعد سنوات من الجمود.
في المقابل، ينتقد حقوقيون مغاربة استمرار رفض التعاون القضائي بين السلطات المغربية والقضاء الفرنسي. وقال عبد الإله بنعبد السلام، رئيس الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، إن “ملف بنبركة من بين القضايا التي لم تُحسم رغم توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ما يكرّس غياب الإرادة السياسية لإغلاق صفحة الانتهاكات الجسيمة”.
في الرباط، وبالقرب من شارع المهدي بنبركة، ستُقام مساء اليوم وقفة رمزية “بالشموع والورود” تخليداً لذكراه. كما تشهد باريس وعدد من المدن المغربية وقفات مماثلة تنظمها جمعيات حقوقية وأكاديمية تطالب بـ“الحقيقة الكاملة والإنصاف”.
وقال محمد العوني، منسق “لجنة سنة الشهيد بنبركة”، إن “الذكرى الستين تتزامن مع صدور كتب جديدة في فرنسا حول القضية، تقدم روايات جديدة حول ظروف الاغتيال واختفاء الجثمان”، مضيفاً أن “العائلة ستواصل المطالبة بالحقيقة الكاملة، لأن التاريخ لا يمكن أن يُطوى بالنسيان”.
قضية المهدي بنبركة تجاوزت حدود السياسة لتتحول إلى رمز للنضال من أجل الحقيقة والعدالة في المغرب الحديث. ورغم أن الزمن مضى، فإن صدى السؤال الأول لا يزال يتردّد بعد ستين عاماً:
من اختطف المهدي بنبركة؟ وأين يرقد جسده؟






